العنوان :
شانلي أورفا
لا تبنى الهوية الوطنية بخطابات عنصرية
تقول إحدى التجارب في علم نفس العنصرية: إن عرض صور لجماعات معينة على أفراد مختبرين أدى إلى نشاط منطقة تعد بدائية في الدماغ، لا تنشط إلا عبر اسثارة شعور الخوف أو التقزز، بينما لم تنشط منطقة أخرى، وهي المنطقة التي تنشط عند التفكير الطبيعي في الناس أو في الذات.
كان المختبرون أفرادًا من مناطق خاض الناس فيها حروبًا أهلية طويلة، وكانت الصور المعروضة لأعدائهم في الحرب؛ الأمر الذي يعني أن هذه الصور مرتبطة في أذهانهم بموقف عنصري مشوب بالحقد والخوف والبغض.
ولا نجانب الصواب إذا استنتجنا من سلوك الأطراف المتصارعة في الحدث السوريّ أن المنطقة التي تنشط عند التفكير الذي يتوخّى التعارف خامدة، وأن المنطقة الأخرى التي تستثار عند رؤية مكروهين ومهدّدين هي الناشطة. فقد أحدث الاستقطاب بأنواعه المختلفة الطائفية والمناطقية والإثنية ضمورًا في منطقة التفكير الطبيعية التي تنشط عند التعارف بين الناس بينما طور المنطقة التي يستثيرها الموقف العنصري المسبق.
ولا شك أن سلوك الفاعلين في الحرب السورية من أبناء الطوائف المختلفة تجاه بعضهم يؤكد أن صورًا نمطية راسخة قد شكّلها الانقسام العموديّ الذي صنعه الاستبداد بين أبناء الوطن الواحد. ومما يدلّ على بؤس الخطاب الذي يتوهم صانعوه أنهم يحسنون صنعًا، وعلى تأكيد استنتاجنا هو وصف الطائفة التي ينتمي إليها رأس النظام بالطائفة الكريمة؛ لأنه وصف يخلق ردّ فعل عكسيًا لدى أبناء الطائفة؛ لما يستبطنه من دلالة يمكن لمتلقّيها المقصود أن يلتقطها بسهولة، وهي عدّ أبناء الطائفة خارج نسيج المجتمع، ولهذا فإنه ينبغي معاملتهم معاملة خاصة.
فقد كان الفشل في صنع هوية جامعة للسوريين من طرف الجادّين في محاولة صنعها، والإمعان في تشويهها من طرف أصحاب المصلحة في تشظيها كفيلين بجعل أبناء الطائفة منكفئين إلى هوية طائفية ساكنة يشعر المنتمون إليها بكلّ أنواع التهديد التي يحدثنا عنها علم النفس السياسيّ:
-التَّهديد الرَّمزيُّ؛ بسبب وجود افتراق صريح بين معتقداتها وبين معتقدات الأكثريَّة كفيل بجعلهم يشعرون بخطر تمثّله الجماعة الحاملة لمنظومة قيم ومعتقدات مغايرة.
-التَّهديد بزوال القوَّة والموارد الَّذي تستشعره الطَّائفة إذا زال نظام الأسد على يد الثَّائرين ضدَّه.
-والتَّهديد للهويَّة الاجتماعيَّة المسبّب عن إهانات علنيَّة واتّهامات لأبناء الطَّائفة بالتَّهتك الأخلاقيّ والكفر، وهي اتّهامات لطالما كان يُعلن عنها بصوت مسموع في السَّابق، ويتناجى بها الكثيرون سرًّا في ظلّ سطوة الخوف، وطغيان الصَّمت على الكلام.
ودليل آخر على تخندق المنتمين إلى الهويات الفرعية في الحال السورية رفع الكرد السوريين عقيرتهم مطالبين بحذف صفة العربية من اسم الجمهورية السورية، وهو مطلب لا يمثل من حيث المبدأ موضعًا للاحتجاج؛ والمستند المباشر له أن سورية ليست حكرًا على العرب لكي يبتلع وصف العروبة اسم جمهوريتها.
ولكنّ المشكلة أن الظنّ أن حذف الصفة خطوة لنيل الحقوق يأتي في سياق فعل سياسيّ، هو في الحقيقة ردّ فعل على الدلالة الإقصائية لصفة العربية التي أضفيت عليها من طرف نظام الاستبداد.
إن المدلول الإطلاقيّ لصفة العربية الذي حاول نظام الاستبداد من خلاله أن يقمع كلّ الهويات الفرعية، ويصهرها في هوية متخيّلة يوهم أصحاب الهويات المقموعة أن الكلمة -بما تختزنه من عنف رمزيّ- هي الخصم الذي يجب الإجهاز عليه.
مع أن نظام الاستبداد بمنحه الكلمة مدلولها الإطلاقيّ كان يكرّس استحالة تجسّدها بخلق نظير لها بالغ في الضيق، وذلك باختزاله الدولة والمجتمع السوريين في شخصية القائد الخالد الذي كان مرادًا له أن يكون مطلقًا متعيّنًا يتجاوز في دلالته الإطلاقية أي مفهوم مجرد، ويصل في تقديس أنصاره له إلى مصاف الإله.
ومن هنا فإن ما أحدثه العالم الرمزيّ الذي صنعه النظام من إقصاء لا يمكن أن يولّد -خصوصًا بعد تطاول زمن القمع- إلا عالمًا رمزيًا صنعته ردود فعل، وهو لذلك لا يقل إقصائية وعجزًا عن التمثيل والتعبير عن المشترك الوطنيّ عن الفعل المتسبّب فيه. بمعنى أن رد فعل مجموعة قومية معينة والمتمثّل في مناصبة العروبة العداء لا ينطلق من منهجية علمية تقود أصحابها في طريق البحث عن حقوقهم، وإنما هو أقصاء مضاد للإقصاء الذي مورس عليهم باسم العروبة، أو بالأحرى عبر المتاجرة بها.
إن صبّ جام الغضب على الكلمة دليل على العجز عن إدراك ما تختزنه من ثراء، وما تنطوي عليه من إمكانيات لفتخ آفاق إنسانية، فهي لم تكن عائقًا أمام توحد السوريين من مختلف القوميات والطوائف في إطارها إبان نضالهم ضد الاستعمار، ولم تكن عائقًا -وحالها هذه- أمام نضالهم بعد الاستقلال لتأسيس تجربتهم الديموقراطية الباكرة، فهي لا تحيل إلى دلالة عرقية كما يظن البعض وإنما إلى حضارة وثقافة وممكنات للتلاقح مع ثقافات أخرى وأقوام آخرين.
إن ما يفعله العنف الرمزيّ من تشكيل صور نمطية للآخر كفيل بتجذير آخرية مَرضيّة بين أبناء الوطن، وخلق حواجز لا يمكن القفز فوقها بين الهويات الفرعية. وهو ما أصبح ملء السمع والبصر في المشهد السوري ليس بين أكثرية وأقلية منظور إليها على أساس طائفي وإنما حتى بين منطقة وأخرى.
لا تُصنع الهوية الجامعة برغبة مظلومين بوضع كلمة مكان كلمة، ولا بوجود خائفين يستشعرون كلّ أنواع التهديد فيدافعون -بما أوتوا من قوة- عن وجودهم، ولا بالاستناد إلى تصنيفات للآخر مرتبطة ببعد تقييميّ له. فليست المشكلة في التصنيف المجرد، وإنما بارتباط التصنيف بتقويم للآخر يضعه مسبقًا في درجة أقل في السلم التفاضلي أو يدرجه في صفوف الأعداء بناء على معيار قبل وطني.
نحتاج إلى تنشيط المنطقة المتقدمة في الدماغ عند رؤية الآخر؛ بقصد التعرف عليه وبناء جسور تواصل معه؛ لأن نشاط المنطقة البدائية التي تستثار عند الشعور بالخوف أو الازدراء فحسب -كما تقول تجارب علم نفس العنصرية- دليل قاطع على أننا بعيدون جدًا عن صياغة هوية وطنية جامعة، وأن ممكن العنف هو أكثر الممكنات قابلية للتحول إلى واقع، والمأساة السورية أكبر دليل على قابليته هذه.